لا يبدو أنّ الساحة السودانيّة ستكون بمنأى عن التدخلات الدوليّة حيث سارع الأميركيّون والسعوديّون للتوسّط لدى طرفي النّزاع أي الجيش السوداني وقوات الدّعم السريع. لكنّ الهدنة التي توصّل إليها الطرفان السعودي والأميركي سرعان ما سقطت على وقع تجدد الاشتباكات والانفجارات في العاصمة السودانيّة الخرطوم في محيط القصر الرئاسي، وذلك بعد سريان هدنة جديدة بين طرفي القتال مدتها 3 أيام، بعد 10 أيام من اندلاع المعارك بين الجيش والدعم السريع. وتبادل الطرفان الاتّهامات في قضيّة خرق الهدنة.
ذلك كلّه، وسط حركة إجلاء نشيطة جدًّا لمختلف دول العالم لرعاياها وبعثاتها الديبلوماسيّة من السودان عن طريق البرّ والبحر. ولعلّ هذا ما ينذر بأنّ نهاية هذه الاشتباكات لن تكون قريبة. وفيما يرى بعض الباحثين السياسيّين أنّ الغرب كانت لديه فرصة لمساعدة السودان على الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني مع بعض مظاهر الديمقراطية، لكنه تقاعس وأصبحت الآمال في دخول البلاد حقبة جديدة لا تعكرها الصراعات بعيدة المنال راهنًا.
من إسرائيل إلى جيران السودان
وللوقوف عند بعض الآراء لبعض الباحثين السودانيّين فيما يحدث في بلادهم، كان لـ "جسور" حديث مع الدّكتور السوداني "محمد ساتي" الأستاذ المشارك في جامعة وسترن في كندا Western University، حيث يرى ساتي أنّ إسرائيل ليست بمنأى عمّا يحدث في السودان " ومن مصلحتها أن يكون السودان بلدًا مستقرًّا لأنّه بلد إفريقيّ وعربيّ يربط بين القارة الافريقية والدول العربيّة. فموقعه استراتيجيّ. مع العلم أنّ حكومة البرهان الحالية، لديها علاقات جيّدة مع حكومة إسرائيل حيث كان وزير الخارجية الاسرائيلي في الخرطوم منذ قرابة الشهر. "
و بالنسبة إلى مصر وإثيوبيا، يرى ساتي أنّهما كبلدان جاران " يهتمّان باستقرار السودان، وذلك بحكم الحدود الجغرافيّة بين البلدين. فمصر من ناحية الشمال وأثيوبيا من ناحية الشرق. إضافةً إلى طبيعة العلاقات التجاريّة والشعبيّة والثقافيّة بين هذه البلدان الثلاثة."
كما يلحظ ساتي في حديثه لجسور " وجود بعض التباينات في بعض الأحيان، لكن جيوبوليتيكيًّا الاستقرار بين هذه الدول هو من مصلحتها جميعها، لا سيّما بوجود نهر النيل، الشريان الحيوي الذي يرفد السودان وإثيوبيا ومصر بالحياة." فبالنسبة إليه وكمواطن سوداني ومراقب يرى أنّ " عدم الاستقرار قد يؤدّي إلى مشاكل من طبيعة أخرى، حيث من الممكن مثلاً أن تتدفّق أعداد كبيرة من النازحين من السودان باتّجاه هذه البلدان المجاورة، ما قد يؤدي إلى خلل في ميزانها الاقتصادي أو حتى الديموغرافي." ويلحظ الساتي " أنّ أعدادًا كبيرةً من المواطنين السودانيين قد نزحوا من العاصمة الخرطوم متوجّهين نحو مصر واثيوبيا. وهذا بالتأكيد ما سيسبّب ضغوطات اقتصاديّة على هذين البلدين."
انقلاب عسكريٌّ على الانقلاب
ويسترجع الساتي في حديثه لجسور حقبة العام 2021 حيث يشير إلى "أنّ انقلابًا عسكريًّا قد حدث في أكتوبر ٢٠٢١ في زمن رئيس الوزراء حمدوك الذي انقلب عليه الجيش بقيادة البرهان، يومها كان الحيش جنبًا إلى جنب قوات الدعم السريع." ويؤكّد الساتي أنّ "ما يحدث في السودان اليوم هو شكل من أشكال الانقلاب العسكري." ويلحظ الساتي " وجود عداوة قديمة بين هذين الطرفين؛ لأنّ هذا الجيش يمثّل الدولة السودانيّة ومؤسساتها، بينما قوات الدعم السريع هي مجموعة مرتزقة تكاد تبلغ أكثر من ١٢ سنة من العمر، أسستها الدولة بقيادة عمر البشير وقتذاك."
ولا يعتقد الساتي في حديثه لجسور أنّ الهدنة الراهنة أو أيّ هدنة أخرى "ستؤمّن مشاركة الطرفين في الحكومة الشرعية. فالمسائل قد تذهب نحو حسم الصراع لأيٍّ من طرفي هذا الصراع في الحكم. لأنّ الخلاف اليوم بات حتميًّا بين هذين الطرفين، وأي وقف إطلاق نار سيكون هشًّا." ويختم الساتي حديثه لجسور مطمئنًا عدم انسحاب ذلك إلى "زعزعة للأمن الإفريقي بالكامل. بل ستبقى المسألة محصورة في السودان. لكن قد تحدث زعزعة مع جمهورية تشاد أو جمهورية جنوب السودان."
يبقى أنّ انتهء هذه الأحداث سيبقى رهنًا بانتصار طرف واحد ولا يبدو أنّ مياه التوافق الحكومي قد تعود إلى مجاريها؛ أو على الأقلّ في المدى المنظور تبدو هذه المسألة مستبعدة، كي لا نقول مستحيلة.
دور إسرائيل الخفيّ
أمّا أستاذ العلوم السياسية في جامعة مدريد الدكتور جورج عيراني فيرى في حديثه لموقع جسور عربيّة أنّ "القضيّة السودانيّة ليست بمنأى عن التدخلات الاسرائيلية." ويستذكر العيراني في حديثه لجسور حديثًا لوزير الخارجيّة الاسرائيلي في الخمسينيّات، في بدايات الدولة العبريّة، موشي شاريت في زمن بن غوريون الذي كتب في مذكراته: " فلنبحث عن أيّ عقيدٍ في الجيش اللبناني ولنعمل على إيصاله إلى رئاسة الجمهوريّة ليمضي اتفاقيّة سلام مع إسرائيل." فهذه هي حقيقة السياسة الاسرائيلية التي تقوم على تفرقة العرب، عبر العمل لخلق دويلات طائفيّة وذلك لتبرير وجود دولتهم العنصريّة. هذه وجهة نظر الدكتور العيراني التي يراها منطبقة بالتمام على الواقع السوداني.
ويلحظ أيضًا أنّ "السودان قد أقامت منذ فترة ليست ببعيدة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل." ويؤكّد العيراني بوجود تدخّل مخابراتي كبير فيما يحدث في السودان. ويشبّه الحالة السودانيّة بالحالة اللبنانية في الحرب الأهلية حيث "لم يبقَ جهاز مخابراتٍ دوليٍّ أو إقليميٍّ إلا وتدخّل في الصراع اللبناني الداخلي الذي لم يكن يومًا صراعًا لبنانيًّا لبنانيًّا؛ بل كانت حرب الدول على الأرض اللبنانيّة." كما قال في حديثه لجسور.
ويخشى العيراني أن يحدث ذلك في السودان برغم وقف إطلاق النار الهشّ. ولا يستبعد العيراني ضلوع دول الجوار في تأجيح هذا الصراع. ولا يستثني العيراني أي دور لعمر البشير فيما يحدث نتيجة انفصال جنوب السودان. وهنا تكمن الخطورة في انتقال هذا الصراع إلى بعض دول الجوار إذا لم تنجح بالنأي بنفسها عن التدخلات المباشرة أو غير المباشرة في أحداث الساحة السودانيّة.
خلاصات واستنتاجات وآفاق
يبدو أنّ ما تعيشه السودان راهنًا، وما قد تعيشه في المستقبل القريب هو نتيجة حتميّة لما حدث بعد سقوط حكومة عمر حسن البشير. فمواجهة التظاهرات من قبل الحكومة وقتذاك وقوّات الأمن بالرصاص الحيّ، وسجن قادة الرأي، عادوا وتقاسموا السلطة والنفوذ . وتجارب التاريخ أكثر من واضحة، إذ أثبتت اكثر من مرّة وفي اكثر من واقعة أنّ أيّ تشارك للسلطة بين الجلاد والضحيّة لن يكون حتمًا على حساب الجلاد. ولعلّ هذه السقطة الكبيرة التي سُجِّلَت على المجتمع المدني الذي كان من الممكن أن يقود عمليّة تغيير حقيقيّ.
لكن لا اللواء عبد الفتاح البرهان ولا اللواء محمد حمدان دقلو (حميدتي) كانا ملتزمين بالحكم المدني، وتقديم تنازلات ديمقراطية، لأنّ المجتمع الدولي لم ينجح بالضغط عليهما، وهو مدركٌ تمامًا انّهما أي البرهان وحميدتي هما الممسكان بزمام الأمور في البلاد. إلى أن أصبح البرهان الحاكم الفعلي في السودان. وهنا اشتعلت المطامع والمطامح الشخصيّة لحميدتي الذي قرّر القيام بضربته، علّها تكون القاضية وترجع إليه حلمه بالسلطة.
ولا يبدو ممّا يحدث أنّ طرفي الصراع بعيدان عن التعامل السرّي مع بعض دول المنطقة التي ستحاول استخدام نفوذها وأموالها لمنع أي ديمقراطية حقيقية قد تكون مصدر إلهام في العالم العربي. فإلى متى ستبقى الديمقراطيّة حلم الشعوب العربيّة من الخليج إلى المحيط وما بينهما؟